فصل: تفسير الآية رقم (183):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (183):

قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{وأملي لهم} أي أمهلهم بوعد جازم زمانًا طويلًا وأمد لهم وهم يعصون حتى يظنون أن الله يحبهم حتى يزيدوا في ذلك لأنهم لا يفعلون شيئًا إلا بمرادي ولا يفوتوني ولم يأت بهما على نهج واحد، لأن الاستدراج يكون بواسطة وبغيرها، فكأنه قال: سأستدرجهم بنفسي من غير واسطة تارة وبمن أتيح لهم النعم على يده من عبيدي وجنودي أخرى، وأما الإملاء وهو تطويل الأجل- فلا يتصور أن يكون إلا من الله تعالى.
ولما كان هذا موجبًا لهم- ولابد- الإصرار على المعاصي حتى يصلوا إلى ما حكم عليهم به من النار، قال مستأنفًا: {إن كيدي} أي فعلي الذي ظاهرة رفعة وباطنه ضيعة- ظاهره إحسان وباطنه خذلان {متين} أي شديد قوي لا يمكن أحدًا قطعه، قال الإمام بعد تأويل للمعتزله حملهم عليه إيجابهم رعاية الأصلح: وأنا شديد التعجب من المعتزله، يرون القرآن كالبحر الذي لاساحل له مملوءًا من هذه الآيات، والدلائل العقلية القاهرة مطابقة لها، ثم يكتفون في تأويلها- أي عن أنه تعالى يريد الشر- بهذه الوجوه الضعيفة إلا أن علمي بما أراد الله كائن، مزيل هذا التعجب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ}.
الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملى زمان طويل من الدهر ومنه قوله: {واهجرنى مَلِيًّا} [مريم: 46] أي طويلًا.
ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل، فمعنى {وَأُمْلِى لَهُمْ} أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة.
وقوله: {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} قال ابن عباس: يريد إن مكري شديد، والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة.
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة، وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين، وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى، وذلك ضد ما يقوله المعتزلة.
أجاب أبو علي الجبائي، بأن المراد من الاستدراج، أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون، استدراجًا لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة، وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة.
قال وقد قال بعض المجبرة المراد: سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون.
قال: وذلك فاسد، لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم، فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل، لأن السين في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} يفيد الاستقبال، ولا يجب أن يكون المراد: أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر، فالمراد إذن: ما قلناه، ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفرًا آخر، والكفر هو فعله، وإنما يعاقبه بفعل نفسه.
وأما قوله: {وأملى لَهُمْ} فمعناه: أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر، ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني، وهذا معنى قوله: {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} لأن كيده هو عذابه، وسماه كيدًا لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون.
والجواب عنه من وجهين: الأول: أن قوله: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم} معناه: ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تماديًا في الذنب والكفر، زادهم الله نعمة وخيرًا في الدنيا، فيصير فوزهم بلذات الدنيا سببًا لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعدًا عن الرجوع إلى طاعة الله، هذه حالة نشاهدها في بعض الناس، وإذا كان هذا أمرًا محسوسًا مشاهدًا فكيف يمكن إنكاره.
الثاني: هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب، إلا أن هذا أيضًا يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح، لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج، وهذا الإمهال مما قد يزيد به عتوًا وكفرًا وفسادًا واستحقاق العقاب الشديد، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبًا لتلك الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صونًا له عن هذا العقاب، أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف، أو أن لا يخلقه إلا في الجنة، صونًا له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة، فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف.
وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب، علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار، كما شرحه في الآية المتقدمة، وهي قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179] وأنا شديد التعجب من هؤلاء المعتزلة، فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوأ من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة القاطعة مطابقة لها، ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية، إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب، والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَأُمْلِى لَهُمْ} يعني: وأمهلهم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} يعني: عقوبتي شديدة.
ويقال: إن صنيعي محكم.
ويقال: إن أخذي شديد. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَأُمْلِي لَهُمْ} يعني أُمهلهم وأطيل من الملاواة وهو الدهر، ومنه مليت أي غشت دهرًا {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي أخذي قوي مديد قلت: في المستهزئين، فقتلهم الله في ليلة واحدة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {أملي} معناه أؤخر ملاءة من الدهر أي مدة وفيها ثلاث لغات فتح الميم وضمها وكسرها، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر {أن كيدي} على معنى لأجل أن كيدي، وقرأ جمهور الناس وسائر السبعة {إن كيدي} على القطع والاستئناف، و{متين} معناه قوي، قال الشاعر: [الطويل]
لإلٍّ علينا واجب لا نضيعه ** متين قواه غير منتكثِ الحبل

وروى ابن إسحاق في هذا البيت أمين قواه، وهو من المتن الذي يحمل عليه لقوته، ومنه قول الشاعر وهو امرؤ القيس: [المتقارب]
لها متنتان حظاتا كما ** أكبَّ على ساعديه النمر

وهما جنبتا الظهر، ومنه قول الآخر:
عدلي عدول اليأس وافتج يبتلى ** أفانين من الهوب شد مماتن

ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
ويخدي على صم صلاب ملاطس ** شديدات عقد لينات متان

ومنه الحديث في غزوة بني المصطلق فمتن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس أي سار بهم سيرًا شديدًا لينقطع الحديث بقول ابن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وأُملي لهم}.
الإملاء: الإمهال والتأخير.
قوله تعالى: {إن كيدي متين} قال ابن عباس: إن مَكري شديد.
وقال ابن فارس: الكيد: المكر؛ فكل شيء عالجته فأنت تَكيدُه.
قال المفسرون: مكر الله وكيده: مجازاة أهل المكر والكيد على نحو ما بينا في سورة [البقرة: 15] و[آل عمران: 54] من ذِكر الاستهزاء والخداع والمكر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أطيل لهم المدة وأُمهلهم وأُؤخِّر عقوبتهم.
{إِنَّ كَيْدِي} أي مكري.
{مَتِينٌ} أي شديد قوِيّ.
وأصله من المتن، وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب.
قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدّة.
نظيره {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44]. وقد تقدّم. اهـ.

.قال الخازن:

{وأملي لهم} يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم.
والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة {إن كيدي متين} يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء هو القوي الشديد.
وقال ابن عباس: معناه إن مكري شديد.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وأملى لهم إنّ كيدي متين} معطوف على {سنستدرجهم} فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخرهم ملاوة من الدهر أي مدة فيها طول والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه {واهجرني مليًّا} أي طويلًا وسمي فعله ذلك بهم كيدًا لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان، قال ابن عباس: يريد أنّ مكري شديد، وقيل: إن عذابي وسماه كيدًا لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال: متن متانه وهذا إخبار عن المكذبين عمومًا، وقيل: نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل: {أنّ كيدي}، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأُمْلِى لَهُمْ} عطفٌ على سنستدرجهم غيرُ داخلٍ في حكم السين، لِما أن الإملأَ الذي هو عبارةٌ عن الإمهال والإطالةِ ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصلِ في نفسه شيئًا فشيئًا، بل هو فعلٌ يحصُل دفعةً، وإنما الحاصلُ بطريق التدريج آثارهُ وأحكامهُ لا نفسُه كما يلوح به تغييرُ التعبيرِ بتوحيد الضميرِ مع ما فيه من الافتتان المنبئ عن مزيد الاعتناءِ بمضمون الكلامِ لابتنائه على تجديد القصدِ والعزيمة، وأما أن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقديرِ الإلهي والاستدراجِ بتوسط المدبّرات فمبْناه دِلالةُ نونِ العظمةِ على الشركة وأنى ذلك، وإلا لاحتُرز عن إيرادها في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} الآية، بل إنما إيرادُها في أمثال هذه المواردِ بطريق الجَرَيانِ على سَننِ الكبرياء {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} تقريرٌ للوعيد وتأكيدٌ له أي قويٌّ لا يُدافع بقوة ولا بحيلة، والمرادُ به إما الإستدراجُ والإملاءُ مع نتيجتهما التي هي الآخذُ الشديدُ على غِرّة فتسميتُه كيدًا لما أن ظاهرَه لطفٌ وباطنَه قهرٌ، وإما نفسُ ذلك الأخذِ فقط فالتسميةُ لكون مقدماتِه كذلك، وأما أن حقيقةَ الكيدِ، هو الأخذُ على خفاء من غير أن يُعتبر فيه إظهارُ خلافِ ما أبطنه فمما لا تعويلَ عليه مع عدم مناسبتِه للمقام ضرورةَ استدعائِه لاعتبار القيدِ المذكورِ حتمًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأُمْلِى لَهُمْ} أي مهلهم والواو للعطف وما بعده معطوف على {سنستدرجهم} [الأعراف: 182] غير داخل في حكم السين لما أن الإمهال ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصل في نفسه شيئًا فشيئًا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه ليس إلا، ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبئ عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصة والعزيمة، وجعله غير واحد داخلًا في حكمها، ولا يخفى التوحيد حينئذ، وقيل: إنه كلام مستأنف أي وأنا أملي لهم، والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير المتكلم المفرد شبيه الالتفات واستظهر أنه من التلوين.
وما قيل: إن هذا للإشعار بأن الإمهال بمحض التقدير الإلهي وذاك للإشارة إلى أن الاستدراك بتوسط المدبرات ليس بشيء لمكان {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} [آل عمران: 187] {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} تقرير للوعيد وتأكيد له، والمتين من المتانة بمعنى الشدة والقوة، ومنه المتن للظهر أو اللحم الغليظ في جانبي الصلب، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الكيد بالمكر.
وفسره بعضهم بالاستدراك والإملاء مع نتيجتهما، وتسميته كيدًا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر، وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل: لكون مقدماته كذلك، وقيل: لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وإيامًا كان فالمعنى إن كيدي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة، والآية حجة لأهل السنة في مسألة القضاء والقدر.
وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم بدر. اهـ.